أخذني فضولي إلى متابعة ما تنقله لنا الشاشات من مشاهدَ وعباراتٍ في عيد الحُبّ، هذا اليوم الذي تتلوّن فيه الحياة بالورود الحمراء والهدايا المغلّفة بالأشرطة المخملية، ويتبارى فيه العشّاق لنشر صورٍ تجمعهم بمن يحبّون، أو رسائلَ مُفعمة بالكلمات الرقيقة. على الجانب الآخر، يختار البعض التذكير بحبٍّ أعظم، ذلك الذي أعلنه السيّد المسيح على الصليب، إذ بذل نفسه فداءً عن البشر جميعًا.
لست من المؤمنين بحصر مشاعر الحبّ في يومٍ واحد من السنة. وما يُنغّص هذه المناسبة هو ما يُرافقها من طابعٍ استهلاكيّ وتجاري يجعلها مجرّد موسمٍ للبيع والشراء، حيث تُستبدل المعاني العميقة للحبّ ببريق الهدايا والاحتفالات الصاخبة، وكأنّ المشاعر تنحصر في قوالب جاهزة لها تاريخ انتهاء.
لكن، هل للحبّ الحقيقيّ تاريخ صلاحية؟ وهل العاطفة التي تُزهر في يومٍ واحد تبقى حيّة أم تذبل سريعًا؟.
يخلط الكثيرون بين الحبّ والمحبّة، غير مدركين أن بينهما فرقًا جوهريًا. الحبّ كما يُصوَّر اليوم قد تحكمه الرغبات الجسديّة، ويُمكن أن تغلب عليه الأنانية أو التملّك، أمّا المحبّة فهي عطاءٌ مستمرّ، والمحبّ لا يطلب ما لنفسه بل يفرح بسعادة الآخر. المحبّة ليست عاطفة فقط، بل هي التزامٌ يتجلّى في التضحية والإخلاص والتسامح.
في المسيحيّة، تجلّت المحبّة في أسمى صورها على الصليب، حيث قدّم المسيح ذاته دون مقابل. فكلّ حبٍّ يخلو من العطاء والتضحية هو حبٌّ هشّ، لا يصمد أمام الزمن. لذلك، لم يكن غريبًا أن يقول يوحنا الرسول: "كلُّ مَنْ يُحبّ فقد وُلِدَ من الله ويَعرفُ الله. ومَنْ لا يُحبّ لم يَعرِف الله، لأن الله محبّة" (1 يوحنا 4: 7-8). أمّا بولس الرسول فقد رسم للمحبّة ملامحها الحقيقية بقوله: "المحبّةُ لا تحسُد، ولا تتَباهى، ولا تَنتفخ، ولا تأتي قَباحة، ولا تلتمسُ ما هو لها، ولا تحتَدّ، ولا تظنُّ السوء، ولا تَفرحُ بالظلم، بل تفرحُ بالحقّ، وتحتملُ كلّ شيء، وتصدّقُ كلّ شيء، وتَرجو كلّ شيء، وتصبِرُ على كلّ شيء. المحبّةُ لا تسقطُ أبداً" (1 كورنثوس 13: 4-8).
في عالمنا اليوم، فقد الحبّ الكثير من جوهره، فباتت الرغبات الجسدية تُغطّي على المعاني الأخلاقيّة، وأصبح الاستعراض العاطفيّ عبر مواقع التواصل جزءًا من صورةٍ زائفة لا تعكس عمق العلاقات. صار الحبُّ مرتبطًا بالماديات، وكأنّه بضاعة لها تاريخ انتهاء، بدل أن يكون وعدًا وعهدًا قائمًا على الإخلاص والثقة.
من هنا، لا بدّ من إعادة النظر في مفهوم الحبّ، بحيث لا يبقى مجرّد شعورٍ لحظيّ، بل يتحوّل إلى التزامٍ يوميّ قائم على الاحترام والتفاهم، لا على الهدايا والمظاهر. ينبغي أن يكون عيد الحبّ مناسبةً لنُعيد ترتيب أولوياتنا العاطفيّة، بحيث يصبح العيد عيدًا للمحبّة المتبادلة، عيدًا للحوار الصادق، عيدًا للعائلة التي تتخطّى الزوجين إلى الأولاد، حيث الحبّ لا يُختصر بكلماتٍ منمّقة، بل يظهر في التضحيات الصغيرة والتفاصيل اليوميّة.
ليس الحبُّ الحقيقيّ عاطفةً موسمية تنتهي بانتهاء المناسبة، بل هو مسيرةٌ تستمرّ مدى الحياة. هو التزامٌ يجعل الزوجين يتكاتفان في الشدائد كما في الرخاء، ويربط بين العائلة بروابط من العطف والرحمة، ويمنح الإنسان إحساسًا بالانتماء إلى الآخر. عندها فقط يصبح للحبّ معناه الإنسانيّ العميق، لا مفهومه الغرائزيّ السطحيّ، وعندها فقط نحيا عيد الحبّ كلّ يوم، وعلى مدار العمر.